أطل الصباح بنوره المخملي، وغردت الحساسين ترانيم حزينة على أنغام الفراق. أما النورس فقد جند أربابه على أريكة السماء تأهباً لوداع شاعر انسلخت جذوره عن تربة الوطن عمداً وقسراً.
أسمع هديل حمامة أضناها الفراق والحنين. تعن شجواً على رحيله. أرى دموعاً حارقة تذوب على أهدابها، فتذكرت ما أشاد به الشاعر:
..."يا حمام الدوح ما هذا الهديل..."
..."أغناء هو أم دمع يسيل"...
هو الذي شاركها حكايات السنين، وهو الذي عاصر أيامها وفرحها وحزنها.
إنها الوالدة ..."بترونله"... التي اتكأت حزنا على مسطبة الدار في "...مجدليا"... ترتشف دموعاً مفعمة بجمر الوداع. لقد زرع الفراق جرحاً دامياً في قلبها.
إنه ..."الأبن المثقف"... الذي يفارقها عمداً وظلماً. هو الذي رحل باكراً قبل أن تتذوق جنى قطافه وغزارة مواسمه. هو الذي أنبت عاطفة أزهرت أريجها دموع الفراق، لتتدحرج لؤلؤة حنان على ورد الخدود، التي لن تجف الا عند لقياه مجدداً.
أشم رائحه البخور من حولها وأتوق الى ..."قراءة الإنجيل المقدس"... الذي تحمله بين يديها الطاهرتين.
هي التي نظرت اليه برأفة ورحمة. إنه ..."السيد المسيح "... الذي تضرعت اليه بقلب أم فاضلة قدست تعاليمه وسكبتها فرضاً وصلاةً على أولادها الستة لتلازمهم مدى الحياة.
تمايلت ..."يدها اليُمنى"... بلمسة حنان وتقوى لترسم ..."صليباً خماسياً"... طالبة منه ان يرافقه ويبعد عنه المصائب والويلات، وبالأخص بأن يحميه من الشرير.
..."صلاتك مقبولة، وطلبك مستجاب أيتها الأم الفاضلة، ولك مني كل ما تريدين"...
وأجابته بصمت مؤلم: لقد اقتلعوا جذوراً داميةً من قلبي. انه الإبن الذي يفارقني. هو الذي ارتشف رحيق عطره في كل يوم أشرق شفقه نوراً عند الصباح ليتكتك الحسون ترنيمة معلنة قدومه. هو التاج الذي يرصع جدران منزلي فخراً. هو الضياء الذي ينير قنديل حياتي املاً. هو العطر الذي ينساب في روحي زهواً. هو املي ورجائي. هو ترتيلة عمري.
..."لِمَ الرحيل؟ ولِمَ الفراق؟ الوطن أولى به"...
وجاء الصوت ليؤكد: لا تقلقي يا ابنتي. سيكون بخير. الرب معه. لم القلق؟.... وهو الذي سيبني ..."هيكل أدبه المهجري"... في أستراليا.