الأدب المهجري


أسمع صوتاً جهورياً يناديني، صوتاً يتناغم مع دقات القلب، ليزهرحرفاً وقافية وشعراً. تلته دعسات قوية وسريعة تلامس الارض بصلابة. 
الطقس حار، والعمل وفير ومضنٍ. الصوت يعلو ويعلو:
ـ أين أنت يا دكتورة؟... افتحي لي الباب.
فأجبت:
ـ أستاذ شربل اهلًا وسهلا بك. ما هذه المفاجأة السارة؟... ما الخطب؟... وماذا تحمل في يديك؟... هل كنت في معرض للكتاب؟
   تراقص صوته بنغمة جهورية انسابت كلمات صاخبة، وأزهرت نفياً قاطعاً:
ـ لا يا صديقتي، يا ست البهاء، هذه الكتب هي خاصتي لقد انتهيت تواً من الطباعة.
   إِسمعي!... واسمعيني جيداً لأخبرك عن عاداتي المألوفة: عندما يختفي شربل بعيني لفترة طويلة وينقطع عن العالم، يعود كعادته ويظهر من جديد ليؤكد بانه منهمك بكتابة وطباعة الدواوين الشعرية، وها أنا أمامك حاملا باقة من الدواوين آملا ان تنال إعجابك. أعلم أنك تعشقين الشعر وتتذوقينه، وأعلم أيضاً أنك تقدرين الفن والأدب والتراث. أَنت الذواقة في كل شيء يا ست البهاء. لذا قررت ان أُهديك دواويني الجديدة لأحقق هدفين نبيلين: الأول سأكون على اطمئنان تام بأن الدواوين قد وضعت في أيدٍ أمينة تصون قيمتها، وتناصر جاهدة لحفظها من الاندثار، والثاني أريد رأيك القيم عن مضمونها، وأنا على كامل الثقة بأنك ستعطينني رأياً صادقاً وصائباً.
   كم أنا فخور بك لأنك صادقة وتعملين بجهد كبير للحفاظ على الأدب والشعر والتراث، ولقد جاهدنا سويا للحفاظ على أدبنا المهجري من الاندثار، وها هي كتبنا الآن تشرق فخراً، وتعلو زهواً في المكتبة التي قدمتها لقنصلية لبنان العامة في سيدني، بموجب القرار الذي منحه معالي وزير الخارجية المهندس جبران باسيل بناء على ملفاتك القانونية. إنه عمل جبار يا صديقتي ولك الامتنان من كل من أحب لغة الضاد والأدب.
ـ1ـ
ما تحقق المشروع لولاكي
يا بهيّه.. بقولها وبزيد
حملتي الفكره.. الأرز ناداكي
واليوم عمّ نعيش أحلى عيد
يرحم ترابو كيف ربّاكي
بتعطي وما يوم بتنغلق هالإيد
قنصل وطنّا اليوم هنّاكي
بإسم الوطن.. وانسمعتْ زغاريدْ
من أم.. ورد خدودها باكي
ركعت تصلّي وراسها تاكي
وتحلم تْشوف عْيونك من جْديد
ـ2ـ
وَهَـ الْمَكْتَبه.. النّعمه الإلهيّه
"باسيل" قَدَّمْها لنا هْديّه
كلْمِة شُكر ما بْتِلْبَق لـ "جُبران"
حَتّى الْقَصايِد ناقْصَه شْوَيّه
كانت حُلم صار الحُلم إيمان
واقِعْ.. مِتِل شي شَمْس مُضْويّه
وِجْبَيْل، أم الْحَرْف، بِالأوطان
فِرْحت كْتير وْفَرْحِتا بْمِيّه
كُتْب اللي غابوا انْجَمْعِت بْبُسْتان
مِنْروح نِحْنا وباقيه هيّي
   أتعلمين يا صديقتي إنك تذكرينني دوماً بشربل بعيني عندما كان يافعاً، كنت أعمل ليلاً ونهاراً للغاية ذاتها، كنت عيناً ساهرة على الأدب والشعر والثقافة، وكم أنا سعيد لأنني قمت بهذه المبادرة، أدبنا وشعرنا يا صديقتي لا يقدران بثمن وها أنا الآن أراك تمشين على خطى شربل بعيني، أكملي المشوار الذي بدأته قبلك وسأكون لك المساعد الأمين في كل حين. 
   إنه عمل شاق، ومشوار صعب، نجاح وحسد. كتابة ونقد. شاعر وشويعر. ديوان وزيوان. تكريم وتهويل. رجال وأشباه الرجال. وزن وكسر بالوزن. ثقافة وجهل. أديب وأمي. فنان ونشاز . جمال وبشاعة. جمع وتفرقة. أخلاق ونميمة. بناء وخراب. ثراث وإهمال. ديوان شعري ونار تحرقه. شعر جميل ولسان طويل. حنان وقساوة. إنها، وباختصار شديد، مسيرة درب الجلجلة.. يا عزيزتي.
   أما أنا يا صديقتي الجليلة فإنني أحب الكتاب، أعشق القلم، أرتاح للهدوء، أتنفس الشعر، أغوص شوقاً لصورة شعرية جميلة، أطرب لبيت معنى جميل، أعانق السكينة لتزهر كتاباً، أحب نور القنديل لأنه يعطيني الدفء والحنان، أحن الى صوت أمي ووجودها ودعمها لي ونصائحها التي لا تقدر بثمن. آه كم أنا مشتاق اليها.. أتعلمين  يا صديقتي كم كانت خسارتي فادحة عندما خسرت أمي؟ ألأم هي كل شيء في الحياة، ولا يمكن لأي انسان ان يلعب دورها:  
إذا قلت الإله.. أقول أمي
فعندي حبُّها ربٌ جليل
   الرجل يا صديقتي هو طفل صغير يحن الى صدر أمه، يذوب حناناً عندما يعانق جسده صدرها ليلتمس حناناً ودفئاً وراحة ابدية.
كم أنتِ  قاسية ايتها الحياة
كم اًنتَ اناني أيها المصير
    لقد اقترنت بالغربة الموحشة.. أتوق شوقا إلى قريتي مجدليا، إلى أصدقاء الطفولة، الى أجراس الكنائس، إلى رائحة الارض الطيبة، إلى الهواء العليل والمنعش، إلى عنقود العنب الأشقر، إلى البيت والجدار ورائحة أمي وأبي، إلى الأقرباء، إلى العين والمياه العذبة، حقاً أقول يا صديقتي أن ذكريات الطفولة جميلة ومؤلمة.. لم ولن أنساها.
    كم كان الكلام مؤثراً، ومفعماً بجروح عميقة تنزف هجراً، وتتوق شوقاً الى الجذور، والى ضمة حنونة من مآسيه، جروح تأرجح فيها دهر مليء بالمغامرات، والنجاح، والتألق.
   ألصمت واجب، والاحترام حق. والتفكير يعانقه التساؤل، أما السكينة فإنها توأم الأمل.
   وقفت لأقول وداعاً، ثم عدت الى حجرتي بخطوات يعانقها شغف القراءة، رائحة النجاح والإبداع عابقة في أرجاء المكان. أما صهوة القلم فقد اقترنت ببرجٍ عالٍ وقف على مشارف صرح ليبشر بالثقافة وينشر الابداع.   يا له من عمل جبار!... انه يعكس صورة رجل امتلأ بقوة الحرف.. هامة ثقافية إمتدّت جذورها في جميع الميادين.. أرزة شامخة صامدة في وجه الاعاصير والعقبات.. وردة جورية نفحت عطراً، غرّد شعراً واسترسل نثراً وديواناً وتراثاً.
      إنه ..."شربل بعيني.. منارة الحرف وأبو الشعر والوزن والقافية. الرجل الذي أعطى الشعر، والحرف، والكلمة، والثقافة، طابعاً فريداً قل نظيره.
   إنه نور من لبنان.
  إنه أرزة خالدة زادت شموخا على مدى الدهور. 
   إنه القلم الذي هندس الكلمات فنفحت عطرها شعراً، ووزناً، وقافية، وتراثاً  تغنى بها الجميع.
  إنه رجل الميادين والساحات، والمواقف الصعبة.
  إنه صهوة المنبر، ونور الكلمة، وصوت الحق.
  إنه ابن مجدليا الأشم، والمثقف الكبير والوفي الأكبر.  
  إنه الشاعر الذي انحنت له القوافي خشوعاً امام سطوة قلمه ونور شعره، لتحلق حالمة وثائرة في ميدان الأدب والثقافة.
    إنه الفخر الذي تناقلته بمحبة ألسنة الأدباء. 
  إنه القلم الذي ثار كاسراً على غلط ملحوظ.
   إنّه الشعر الرقيق الذي تنساب صوره الخلابة في ترانيم روحنا، وأدبنا، ليطلق لحناً شجياً يناغم الروح، وينحني للمحبة، ويلامس القوافي، ويدغدغ الكلمات العطرة لينشر سلاماً مشرقاً في اقطاب الارض.
  إنه النحلة الدؤوبة التي تقطر عسلاً سرمدياً، نهل من عبقرية العظماء، ليزهر تراثاً، ويقطف ادباً جلياً،  شامخ الكتفين لا ينحني إلاّ للحق، وتتناقله صاخبة كل من أحب الشعر والأدب وعلى مدى الدهور. 
   إنّه الارزة الازلية الشاهقة والشامخة التي تلامس أيدي الرب، ليسطع نورها أبياتاً شعرية تمجد اسمه إلى أبد الآبدين. 
  إنه شجرة الجوز التي امتدت جذورها الصلبة في زنبقة المدائن الحالمة في بقعة من أرض لبنان، وفِي شماله الخلاب، والتي غارت الورود من اسمها الذي اقترن بالمجد (..."مجد"...) ليصبح مُلْكاً له (..."ليا"...) مرنماً بسلام وحنان وحب تقاسيم حروفه  (..."مجدليا"...).
     هو ابن مجدليا الذي فاح اريج ادبه في كل قلب دقت حناياه ترانيم الحب.
  هو الشاعر الذي عصفت بجدران قلبه كرامة الشعر فصانها دوماً وأبداً. 
  إنه الشاعر الذي أزهر غصون الحرف وأغفى مجده على أريكة الحب. 
   هو من رفرف شموخ قافيته وأريج صوره الجميلة الى أعالي الغيوم ليناجي الخالق ويرنم له تمجيداً. 
     إنّه الشاعر الذي أزهَرَعِطرَ الياسَمين ادباً وغردَ العصفورُ شجواً ترانيمَ شِعرهِ لحبيبةٍ اضنَاهَا الهَوى واشادتْ لَهُ بنجوىَ حُبِهَا المُتَيَمْ والمُتَعَطِشِ لأبيَاتِ غَزَلٍ تُزَينُ لِقَاءَ العاشِقينِ حباً وهِيَاماً.
انه القنديل الذي ينير برحيق ضوئه حباً قديماً طوته السنين ظلماً وافتراءً.
   جلست خلف مكتبي.. الجو بارد، والليل داكن، اما الهدوء فهو دوماً وابداً مفتاح الفكر، وتنهيدة القلم، وبالأخص عندما يقترن بنغم موسيقي جميل تأرجح له القلب والفكر، وعانق الروح طرباً.
   اًمعنت النظر به لاستمد القوة والسلام. هو ملجأي وخلاصي وإيماني.. هو قوتي ورجائي. إنه ..."السيد المسيح "... الذي سكن قلبي ورافقني في مسيرة حياتي. الذي منحني النور والسلام وعلمني التواضع. اًحنيت رأسي إجلالا، قبلت ايقونته، ركعت وصليت:
..."اًعطني السلام يا إله أنت الملك والسيد القادر على كل شيء"...
..."لقد اًتيت إليك فاستجب ندائي"...
**