قصائد ريفية

"الطبعة الرابعة ٢٠١٦"
   ألجمال الريفي والطبيعة الخلابة يتربعان على غلاف الديوان. أكاد أشمّ عبير الزهر وأريج الطبيعة ينساب الى مكتبي حيث أثابر على الكتابة. 
   أشعر بدفء غريب ينتابني عند النظر إلى الزهور التي تتموّج برقّة على أغصانها. كم أشتاق إلى ملامسة أزرارها الزهرية اللون، والتي تغازل الأشجار التي تحيط بها مؤكدة بأن عطرها سيبقى دوماً يختال خجلاً ودلعاً بينهما ليفرش نسائم الحب وعطر السعادة بين أرجائها.
   في ..."قصائد ريفية"...  ناجى البعيني ..."والدته بترونله"... بحنان وألم، ودعاها  إلى إحضار الماء الساخن، وسكب الحساء، استعدادأ لاستقبال أخيه العائد مع القطيع قرب المنعطف الغربي: 
أُمَّاهُ..
أُمَّاه..
هَيِّئِي الْمَاءَ الْبَارِدَ،
وَاسْكُبِي الْحَسَاءَ،
فَالشَّمْسُ اضْمَحَلَّتْ خَلْفَ الأُفُقِ الْبَحْرِيِّ،
...
أُمَّاه..
هَلُمِّي لِنَرْكُضَ مَعاً إِلَى الْمُنْعَطَفِ الْغَرْبِيِّ
حَيْثُ نَتَلَقَّفُ بِأَحْضَانِنَا أَخِي الْعَائِدَ مَعَ الْقَطِيعِ.
   وكان ..."للعربجي"... الدعم الكامل من الشاعر الذي وصفه ..."بحفيد الشمس"...  هذا الرجل الدؤوب الذي لا يهدأ حتى ينتهي من عمله المضني رغم إصابته بضربة شمس، التي هي بنظر الشاعر ..."جدته"...:
الْعَرْبَجِيُّ الْمُتَنَقِّلُ مِنْ دَسْكَرَةٍ
إِلَى دَسْكَرَةٍ،
أُصِيبَ بِضَرْبَةِ شَمْسٍ،
وَلَكِنَّهُ أَبَى التَّوَقُّفَ عَنْ عَمَلِهِ
الْمَجْبُولِ بِالْبَرِيقِ
وَالْحَرَارَةِ،
مَخَافَةَ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ:
حَفِيدُ الشَّمْسِ خَافَ جَدَّتَهُ!
   ولِمَ الفراق؟.. ولِمَ الهجران؟.. وما هو السبب الذي يبعد الحبيبة عن البعيني؟.. تلك التي كانت الضوء لعينيه الزائغتين .. أما هو فلقد أثاره ..."الشك"... عندما ظنّ أن مركب حبيبته قد غزته ..."مراكب الزهر وحب جديد":
أَمْسِ،
كُنْتِ هُنَا يَا حَبِيبَتِي،
ما الَّذِي أَبْعَدَكِ عَنِّي،
وَأَنْتِ الضَّوْءُ لِعَيْنَيَّ الزَّائِغَتَيْنِ؟
قُولِي..
هَلْ خَلْفَ الأُفُقِ أُفُقٌ آخَر؟
وَالْبَحْرُ الأَزْرَقُ،
هَلْ غَزَتْهُ مَرَاكِبُ الزَّهْرِ؟
   وما أجمل ..."غروب الشمس"... عند البعيني الذي أشار إليه من البعيد، عندما عانق  البحر ليودع النهار ويبشّر بولادة الليل الحالك:
مَنْ يَوَدُّ رُؤْيَةَ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ
الْمُضَمَّخِ بِالْغَيْمِ الْهَائِمِ،
فَلْيَنْتَظِرْ غُرُوبَ الشَّمْسِ؟
هُنَاكَ، فَوْقَ الْبَحْرِ،
يُشْنَقُ الضَّوْءُ،
وَتَنْتَهِي أُسْطُورَةُ النَّهَارِ،
لِتَبْتَدِىءَ مَلْحَمَةُ اللَّيْلِ الْمُبْهَمِ
   وتوسّل البعيني إلى "الرب الأله" كي يعيد الحياة إلى زهرته التي ذبلت على فراقه، وحزن الجميع لأجلها:
الرَّوْضُ يَبْكِي..
الرَّوْضُ يَبْكِي..
فَزَهْرَةُ الْغَارْدِينْيَا ذَبُلَتْ،
وَجَفَّ الْمَاءُ فِي عُرُوقِهَا.
لِمَاذَا؟..
لِمَاذَا رَبِّي..
وَالْجَمَالُ هُوَ أَنْتَ،
وَالسَّحَابَةُ الْمَشْحُونَةُ بِالْمَطَرِ،
تَنْتَظِرُ إِشَارَةً مِنْكَ؟!
تَبَخَّرِي، قُلْ،
وَاهْطُلِي،
لِتَعُودَ الْحَيَاةُ إِلَى الزَّهْرَةِ.
   وما أجمل "البيادر"عند البعيني التي حوت عرق الفلاح الأسمر، وأنظار الطيور ودبيب النمل:
ما أَجْمَلَ الْبَيَادِرَ
عَرَقُ فَلاَّحٍ، وَجَنَى مَوْسَمٍ،
هِيَ الْبَيَادِرُ
مَحَطُّ أَنْظَارِ الطَّيْرِ،
وَدَبْدَبَاتُ جَحَافِلِ النَّمْلِ،
هِيَ الْبَيَادِرُ
   وأبدى البعيني "اشتياقا جليا لأرضه" وربوع بلاده مفعماً بالحب والأسى على فراقهما، وتمنّى لو ينقله الضوء إليهما بشكل سريع ليتنشق عشق هوائهما العليل:
إِحْمِلْنِي أَيُّهَا الضَّوْءُ إِلَى رُبُوعِ بِلادِي،
فَأَنْتَ أَسْرَعُ مِنَ الصَّوْتِ،
وَأَخَفُّ مِنَ الْهَوَاءِ.
مُشْتَاقٌ أَنَا لِتِلْكَ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ،
الَّتِي زَرَعْتُهَا بِأَشْجَارِ الزَّيْتُونِ الْخَضْرَاءِ.
أما "أحراج الصنوبر" فكانت الملجأ الوحيد للبعيني ليعود إلى نفسه ويتنشّق عبير الحب عندما يدخل حرم الجمال :
كُلَّمَا اشْتَدَّ الْحَرُّ،
فَزِعْتُ إِلَى أَحْرَاجِ الصَّنَوْبَرِ
الرَّابِضَةِ فَوْقَ الرَّابِيَةِ الْخَضْرَاء.
لِي هُنَاكَ عِرْزَالٌ
وَفِرَاشٌ مِنَ الْقَشِّ.
أَنْسَى ذَاتِيَ الْمَلِيئَةَ بِالْخَطَايَا،
وَأَسْرَحُ مَعَ الْلاوَعْيِ،
وَأَغْرَقُ بِالصَّمْتِ،
كُلَّمَا دَخَلْتُ حَرَمَ الْجَمَالِ هَذَا،
وَشَمَمْتُ رَائِحَةَ الصَّنَوْبَرِ.
   امّا "الثقه بالنفس والاتكال على الله" فكانا من مقدسات الشاعر الذي شرّع سفينته المستقيمة والمتينة الى طريق البر والنجاح غير آبه بالجهلاء،  والحساد، وبغيرتهم العمياء، والذين لا عمل لديهم إلاّ أن يعرقلوا طريق نجاحه وإبداعه:
يَشْزُرُونَنِي بِخُبْثٍ..
يُشَكِّكُونَ بِي وَبِأَعْمَالِي..
يُطْلِقُونَ حَوْلِي الشَّائِعَاتِ،
وَيُثِيرُونَ غَضَبَ الأَمْوَاجِ وَزَوْرَقِي مُبْحِرٌ!
سَارِيَتُهُ مُسْتَقِيمَةٌ..
أَشْرِعَتُهُ مَتِينَةٌ.
وَأَخْشَابُهُ مَقْطُوعَةٌ مِنْ شَجَرَةِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ،
الَّتِي لا تَقْتَلِعُهَا رِيَاحُ الثَّرْثَرَةِ،
وَلا تُحَطِّمُ أَفْنَانَهَا أَنْوَاءُ الرَّذِيلَةِ.
زَوْرَقِي..
سَيَصِلُ بِإِذْنِ اللَّـهِ،
لأَنَّنِي عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ التَّارِيخِ.
   وطالب البعيني "حبيبته" بان "تنقذه من براثن الخريف" الذي يتلاعب به ويجرّه نحو المجهول:
خَلَعَ الرَّبِيعُ عَبَاءَتَهُ وَمَشَى،
بَعْدَ أَنْ دَفَنَ بَقَايَاهُ فِي قَعْرِ ذَاتِه.
...
خَيِّمِي عَلَيَّ..
فَخَرِيفِي يَتَلاعَبُ بِي،
يُثِيرُ أَعْصَابِي،
وَيَجُرُّنِي نَحْوَ الْمَجْهُولِ.
مُدِّي يَدَيْكِ وَأنْقِذِينِي
   أمّا "الانتظار" فلا يحلو  للبعيني إلّا على "أبواب حبيبته" الذي تعلّق بأذيال ثوبها. هي التي رسمت على اوراقه وجهها، وسبحت في بحر حنينه:
وَحِينَ تَسَرْبَلْتِ زَهْرَ الأُنُوثَةِ،
تَعَلَّقَ رَوْضِي بِأَذْيَالِ ثَوْبِكِ
وَتَطَيَّبَ!!
يَا الرَّاسِمَةُ عَلَى أَوْرَاقِي.. وَجْهَكِ،
السَّابِحَةُ فِي بَحْرِ حَنِينِي،
الطَّالِعَةُ كَالْحُلْمِ مِنْ أَرَقِي الطَّوِيلِ.
عَلَى أَبْوَابِكِ يَحْلُو انْتِظَارِي.
   ومهما بعدت الحبيبة ستبقى صورة في عينيه، ولحناً وابتسامة على شفتيه في غربته الحزينة:
مَهْمَا بَعُدْتِ..
وَابْتَلَعَتِ الْمَسَافَاتُ آثارَ قَدَمَيْكِ،
فَلَسَوْفَ تَبْقِينَ فِي الْعَيْنَيْنِ صُورَةً،
وَعَلَى الشَّفَتَيْنِ لَحْنَاً وَابْتِسَامةً،
تَتَتَلْمَذُ عَلَيْهِمَا ثُغُورُ الْفَتَيَاتِ.
لَقَدْ كَبُرَ الْقَلْبُ فِيكِ،
فَاحْمِلِيهِ ذِكْرى إِلَى الرُّبُوعِ..
هُوَ كُلُّ مَا أَمْلِكُ فِي غُرْبَتِي!.
   ونادى البعيني "حبيبته بلغة الحب" وطالبها بالبقاء الى جانبه لتزيّن غربته القاحلة بزهرة فاح عطرها:
   يَقُولُونَ إِنَّ الْغُرْبَةَ قَاحِلَةٌ
كَصَحْرَاءَ يُخَاصِمُهَا الرَّبِيعُ..
وَلَكِنَّ غُرْبَتِي أَزْهَرَتْ
وَعَطَّرَتْ بِعَبِيرِهَا الْفَوَّاحِ
...
قُدُومِكِ إِلَيَّ..
كَانَ رَبِيعاً بِحَدِّ ذَاتِهِ،
فَلا تَرْحَلِي.
   ونادي البعيني "جميع الخبثاء" بأن ياتوا إليه لريحهم من الحسد والضغينة:
تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْخُبَثَاءِ
لأُرِيحَكُمْ مِنْ خُبْثِكُمْ،
مِنْ لَوْثَةِ النَّذَالَةِ،
الَّتِي تَجْتَاحُ قُلُوبَكُمُ السَّكْرَانَةَ بِخَمْرِ الْحَسَدِ
وَالضَّغِينَةِ.
تَعَالَوْا إِلَيَّ..
لأُرِيَنَّكُمْ نَمْلَةً تَجْنِي مَؤُونَةً،
وَنَحْلَةً تَفْرُزُ عَسَلاً،
بَعْدَ أَنْ أَرْضَعَتْهَا الزَّهْرَةُ رَحِيقَ بَتَلَتِهَا.
تَعَالَوْا إِلَيَّ..
فَحُضْنِي وَاسِعٌ، وَبَالِي طَوِيلٌ
   وكانت "بترونله" للبعيني "الأم والصلاة المقدسة" إنها رسولة من عند الله لتتلمذ الأمم وتعدّ أجيالاً صالحة:
أَيَّتُهَا الصَّلاةُ الْمُقَدَّسَةُ ،
الَّتي أَتْلُوها دَائِماً ،
فِي الْيَقَظَةِ وَالْحُلْمِ
أَيَّتُها الرَّسُولَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ ،
لِتُتَلْمِذِي الأُمَمَ ،
وَتُعِدِّي الأَجْيالَ الصَّالِحَةَ .
...
لَقَدْ كَبُرْتُ، وَكَبُرَ مَعِي حُبُّكِ ،
فَأَنْتِ بِحَدِّ ذَاتِكِ حُبٌّ، صَلاةٌ وَقَداسَةٌ.
   وكان تأثير "البسمة" على الشاعر  كبيراً لأنها تروي غليله، وهو على أهبة الاستعداد لإعطاء النجم والقمر لحبيبته إذا أشرقت بسمتها:
لا شَيْءَ يَرْوِي غَلِيلِي كَالإِبْتِسَامَةِ.
إِبْتَسِمِي.. وَخُذِي النَّجْمَ وَالْقَمَرَ،
وَشَالاً مَغْزُولاً مِنْ غُيَيْمَاتِ الصَّبَاحِ،
وَكَالْوَرْدَةِ السَّكْرَانَةِ بِالنَّدَى كُونِي..
وَبِالنَّسِيمِ،
لأَحْضُنَكِ بِرِمْشِي وَأَرْحَلَ..
**