المرأة التي تعتلي الغلاف تبدو حزينة، كئيبة الوجه، حالمة النظرات، تنتظر شيئاً غريباً في مكان ما.. في غربة عاصرتها، وعاشت مآسيها، وحزنها ووحشتها، إنها المرأة التي اقترنت بألم البعيني وحزنه، اللذين لازماه في غربته الطويلة والحزينة والموحشة.
في "الغربة الطويلة" ناجى البعيني "الوحدة الموحشة" في الليل الحالك والخالي من الكلام، ثم جبل من ترابها "إنساناً" ليشاركه حياته ويؤنس وحدته:
.. وْصِرْتْ بِلْيَالِي الْبِكِي
إِجْبُلْ مِنِ تْرَاب الْحَكِي
إِنْسَانْ..
إِسْأَلْ : يْجَاوِبْنِي
إِزْعَلْ : يْعَاتِبْنِي
وْيِرْسُمْ عَ كَفِّي مَمْلَكِه
بْخِيطَانْ
مِنْ دخَّانْ..
اما "الغربة الطويلة" فقد لازمت البعيني وعاشت معه في كل حين سواء بآلامها، وحزنها، أم بفرحها، وشقائها، ولم يتوقف يوماً عن السؤال عما تخبئه له:
كَتْبُونِي عَ شْفَاف وْلادُنْ
قَصِيدِه لِبْلادُنْ
الْمَزْرُوعَه بالنَّارْ
بِالْحُزْن وْبِالدَّمَارْ
وْعَ فَرْشِةِ النِّهَايِه.. قَالُولِي:
يَا غُرْبِةِ الأَيَّام الطَّوِيلِه
حْكِيلُنْ عَ اللِّي صَارْ
مَعْ دَمْعَات الْعِينَيْنْ الْخَجُولِه
اللِّي تْجَمَّدِتْ عَ خْدُود الطُّفُولِه
وْمَا غَسَّلِتْ آثَار بْعَادُنْ!
...
يَا غُرْبِة الأيَّامْ الطَّوِيلِه
يَا غُرْبِة الشَّقَا وِالضَّنَى
قَبِلْ مَا تِحْكِيلُنْ حْكِيلِي
شُو اللِّي مِتْخَبَّالِي أَنَا؟!
ونادى البعيني "رجال القوافل" الذين تَرَكُوا الوطن وهاجروا الى بلاد اخرى ليزرعوا فيها مواسم الخير، لكنهم تَرَكُوا الوطن يبكي حزناً على رحيلهم:
رْجَال الْقَوَافِلْ عَجّلُوا بِالسَّيْرْ
وْتَرْكُوا رْبُوع الأَرْزْ زِعْلانِه
زَرْعُوا الْمَوَاسِمْ.. وِالْمَوَاسِمْ خَيْرْ
وْنَصْبُوا خْيَامُنْ بِـ وَطَنْ تَانِي
زِعل النِّدِي وِانْبَح صَوت الطَّيْرْ
وْتِكْيِت غْصُون الْحَوْر دِبْلانِه!
وِاللِّي هَجَرْ بَكِّيرْ
صَعبْ تَا يِرْجَعْ
هِرْبَانْ مِنْ تِهْجِيرْ
بِـ قُوّة الْمَدْفَعْ
مْنِ سْيَاسْة حْزَازِيرْ
مِنْ ظُلم أَوْسَعْ
مِنْ تِمّ بَحْر كْبِيرْ
أَطْفَالْ عَمْ يِبْلَعْ!
وأبى البعيني إلاّ أن "يرفع الصوت ليغني لبلاده" ويزرع اسمها على شفتيه، ويحمل صليبها على كتفيه، ليردّ قليلا من جميلها:
صَوْتِي مَبْحُوح.. وْإِيمَانِي
فِيكِي يَا بْلادِي خَلاَّنِي
إِرْفَع الصَّوْت وْغَنِّيلِكْ
رَحْ إِزْرَعْ إِسْمِكْ عَ شْفَافِي
وْإِحْملْ صَلِيبِكْ عَ كْتَافِي
وْإِطْفِي بِالدَّمْعَه غَلِيلِكْ
بَرْكِي يَا بْلادِي الْحَنُونِه
بْصَوْتِي وِبْدَمْعَات عْيُونِي
بْرِدِّلِّكْ نِتْفِه مْنِ جْمِيلِكْ..
وكان "لوداع الشاعر" الأثر الكبير في قلب البعيني الذي طمأنه بأنه عندما يقرأ قصيدة كتبها الراحل عن الأهل والأرض، سوف يحلق حوله الشعراء الأجلاء:
حفْلِة وِدَاعْ؟!.. وْلَيْشْ حَتَّى نْوَدِّعَكْ
وْنِلْقِي الْقَصَايِدْ وِالْخُطَبْ عَ مَسْمَعَك
وْنِحْنَا إِذَا مْنِقْرَا قَصِيدِه كْتَبِتْهَا
عَنْ أَهْلَك.. وْعَنْ أَرْضَكْ الْـ حِبَّيْتْهَا
مَهْمَا بْعِدِتْ.. مِنْطِيرْ تَا نْصَفِّي مَعَكْ؟!
...
مَخْجُول حَتَّى هَـ الْقَصِيدِه سَمّعَكْ
وْكِلّ القَصَايِدْ رَاكْعَه عَ مَرْكَعَكْ
لكِنْ.. قَبل ما تْعُودْ عَ أرض الْوَطَنْ
هَـ الأَرْض يَللِّي تْلاعَبِتْ فِيهَا الْفِتَنْ
حَابِبْ تَا قِلَّكْ بَسّ: أَللّـه يْكُونْ مَعَكْ
وما أجمل ..."طلة الغائب"... العائد الى بلاد الأرز، والذي رقصت له السهرات والأحباب.
وأقسم البعيني "بالأرز، وبالدم، وبالمجد، وبصنين" بان شعبه سيتوحد قريباً ليستقبل غيابه، وليشجعه على البقاء في ربوع الوطن:
بْطَلِّة الْغَايِبْ.. فِرْحِت السَّهْرَه
وْسِكْر الْوَتَرْ.. ما أَجْمَل السَّكْرَه
رَقَّص الأَرْزِه النَّاطْرَه بِالْجُرْد
رَجْعِةْ حَبَايِبْ طَوّلُوا السَّفْرَه
وْلُبْنان.. يَللِّي ما بْيَعْرِف حقْدْ
قَتْلُوا طْفَالُو وْشَوّهُوا الذّكْرَى
شَعْبِي أَنا.. رَحْ حَلّفُوا بِالْمَجْدْ
بِالأَرْز.. بِالدَّمَّاتْ.. وِبْصنِّينْ
يْوَحِّدْ صُفُوفُو الْيَوْم.. مُشْ بُكْرَا
وما ..."الحياة"... كما رآها البعيني سوى ..."مشوار يزنره الألم والظلم والشر"...:
مشْوارْ جينا.. وْكيفْ رَحْ نِرْجَعْ
وكل ما ضحِكْنا.. الْعَيْن عَمْ تِدْمَعْ
وْلَيْش حَتَّى نْكَمِّلْ الْمشْوارْ
وِبْآخِرْ الْمشْوارْ رَحْ نِرْكَعْ
لا الدّارْ عَمْ تِحْضُنْ أَهالي الدَّارْ
وْلا الرَّبّ صَرْخِةْ ظُلْم عَمْ يِسْمَعْ
عَ الأَبْرِيا.. بْيِتْسَلَّطُوا الأشْرارْ
وْما في حَدا من خالْقُو بْيِفْزَعْ
اما "المرأة" التي حلم بها البعيني فكانت هي التي يركع لها "أزغر طفل وأكبر ملك" لقد أحبها بكل جوارحه، وحلم أن يعيش بقربها، ويمشي العمر على دربها. إنها "أمه الجميلة" حتى وبعدما لفها تراب القبر:
إنتي المرا.. اللي بْحِبّها
وْبِحْلَم تا عيش بْقُربْها
وإمْشي الْعُمر عَ دربْها
منْ دون كذبْ وْشَوشَرَه
...
إنتي الْمَرا.. اللي بْيِظْلمِكْ
جاهِلْ غَبي.. ما بْيِفْهَمِكْ
كل ما قسي.. ما أَرْحَمِكْ
بْتِرْمي عْليْه الْمَغْفَرَه
...
إنتي الْمَرا.. بْيِركَعْ إلِكْ
أزغَر طفل.. أكْبَر مَلِكْ
يا مَيْمتي.. ما أجملِك
حَتّى بْتُراب الْمَقْبَرَه
وثار البعيني على الأشخاص الذين يستغلون ..."طفلة صغيرة وبريئة ابنة السبع سنوات"... لا غير ..."ويُسَخِرُونَها لبيع الحلويات"... غير آبهين بالظلم الذي يلحقها:
يا تقبريني.. السحر بجفونك
وصدر الحلو.. مَنّو حلو بدونِك
صرمايتك بشوارب الحكّام
يا زْغيرتي.. كيف الدّني بتنام
وربّ السّما ساكتْ عنْ الاجرام
تا هَيْك إنتي تْغمّضي عيونك
...
وين إنتي وينْ.. تا ضمّكْ
تا شَبّعِكْ من عاطفِةْ إِمّكْ
تا كون بَيّك.. غَنّجِكْ، قلّكْ:
جوّاتْ قلبي فارش مْحَلّكْ
نامي، يا روحي، وْطَيّري هَمِّكْ
وحوش الخليقَه طامعَه بْدَمِّكْ
أمّا ..."لبنان"... فلم يشعر أبداً ..."برغبة البعيني للعودة اليه"... وهو الذي أبدى هذه الرغبة منذ زمن طويل، يعاني خلاله الألم والدموع والهموم:
كيف بَدّي حَقِّقْ رْجُوعي
وْطَيرْ الأمَلْ غرْقان بِدْمُوعي
الإيدَيْن عَم بِتْلَوِّح بْمَنْديلْ
صرْلُو زَمَنْ بيرَدِّدْ مْواويل:
جُوعْ الْوَطَنْ مِتل الْهُموم تْقيلْ
ولُبْنانْ مُشْ عَمْ يِشْعُرْ بْجُوعي
**